المفاهيم والثقافة
المفاهيم والثقافة
الامة التي ابتعدت عن تجديد مفاهيمها التقليدية , امة تعيش ثقافة الجثث المحنطة , وتدفن شعبها في مقبرة الماضوية .
المقدمة: اهمال تحديث المفاهيم , بتاسيس مفاهيم جديدة , تنسجم مع الحاجات الانسانية , المتجددة باستمرار, ماهي الا احد الامراض المزمنة , التي تصيب العقل والذي هو اي العقل, جوهرة ابداع انساني , تميزه كقيمة عليا , عن بقية المخلوقات لامتلاكه ناصية الفهم المعرفي , ليتفوق مجتمع دون اخر.
ومن هنا علينا ان نعطي , لحركة العقل فردانية, كانت او مجتمعية , اولوية في تحديث مفاهيم ومعاني الثقافة , لتؤسس حزمة من انتاج الافكار, والابتكار الممنهج , للوصول الى الهدف الاسمى للمجتمع . وهي تحقيق امنه , سياسيا , واجتماعيا , واقتصاديا . كما هي مجتمعات التحضر , التي ننظر الى انظمتها , وكاننا نجلس متفرجون في ملعب الاولمبياد دون المشاركة , في اي نشاط ابتكاري , يخطط لجيلنا واقعا ومستقبلا منسجما , ولو بشئ ما عن عصرنة الحاجات , والابتعاد عن تمنطقها لغويا في فضاءات تبتعد عن حقائق المنطق العلمي , والواقعي لتخدم الانسان وحاجاته. فتدريجيا تطورت لدينا اليات التخلف الابداعي , فاصبحت قادرة على انتاج كم وكيف , اعمق بكثير من كم وكيف التخلف , الذي انتجه الاسلاف. ومالم ننقذ العقل , من تقاليد المفاهيم النمطية . فاننا سننجر بعماء الوعي لنصنف ضمن سلالة اللا انسنة.
تاسيس المفاهيم:
المفهوم هو فكرة قادرة على التعميم , وتتضمن رؤية محددة ودقيقة في المجال الذي تعمل فيه . تاسيس المفاهيم , تعطي للفرد قدرة على التامل والتفكير المنظم والعلمي , الذي بالتاكيد سينتج مجالا معرفيا , يؤسس جملة من المفاهيم المنظمة فكريا قابلة للتجديد , والمنفتحة على غيرها من الافكار.وان من اهم اسباب توقف الثقافة العربية , هي توقف مفكريها عن تاسيس مفاهيم التجديد المعرفي. بل تشبثوا بمفاهيم الماضي , وتوقفوا عندها , مما ادى الى توقف تفكيرهم عن انتاج الجديد. واصبحوا ينتمون الى عصر غير العصر الذي يعيشون احداثه وتطوراته.اشبه بمن يستخدم مفتاحا خشبيا صنع في القرون الوسطى , ليفتح به بيته الحديث الذي يسكنه اليوم.
مهمة تاسيس المفاهيم , تقوم بها النخب على ان يتم تداولها في الاعلام والاوساط الثقافية والتعليم وصناع القرار. لتصل الى الفرد الذي هو الهدف كله ليؤسس بدوره فردانية تفكيره.
فردية التفكير:
تعني ان لدى كل منا قدرة ما على التفكير, وانه لن تكتمل انسانيته وحريته ووجوده الحقيقي , دون ان يستخدمها ويفعلها كما ليس من حق اي منا ان يستبعد فكرة انسان اخر. فتجدد الذات هي تقبل اراء الاخر والتامل بها , اي كانت لان اجزاء الحقيقة لايملكها الا اخرون , يشتركون في استقلالية التفكير , وحريته المتجددة , حتى وان اختلفنا معهم هنا وهناك في الرؤى , او الفهم المعرفي , لتناول الجوهر من الافكار.وان رفض النقد ماهو الا تعميق للانا التي تقود الى تضخيم الذات الكاذب بستار الوعي الزائف.
تاسيس مفاهيمنا من جديد , وتنمية قدراتنا كافراد, لابتكار افكار جديدة تبنى على نقد القديم . نكون قد ساهمنا في عقلنة العقل , الذي هو مبتغى كل متجدد متحضر يروم التحديث , لانتاج ابداع فكري, يؤسس لمفاهيم جديدة للمثاقفة بكل مدياتها وادواتها .واهمها المثقف الستراتيجي الذي هو اساس بحثنا هذا.
المثقف:
يخطاء من يعتقد , ان المثقف هو من يعلم عن كل شيئ شيئا . فهذه ليست مثاقفة بل معرفة عامة للتعلم . المثقف هو الشخص القادر على تغير فكره , عندما يتبين له عدم صلاح فكره في مسالة معينة كان يعتقد بصحته.
والمتعلم هو الاكاديمي , الذي لم يستطع تغيير فكره , عندما يشاء لان ضوابط القوانين العلمية لاتسمح بذلك .
دور المثقف الاساسي , هو المعرف بانتاج الافكار ونقدها , لان الانتاج والنقد الدائم هو الالية الوحيدة , التي تتيح للافكار ان تنضج جماعيا , وتتبلور وتختبر وتشذب لتصبح حاملة للتغير الاجتماعي.
وعلى مدار قرون كان المثقف الحر , او شبه الحر, هو المثقف الحقيقي , الذي يقرع نواقيس التيقظ في كل مكان، ليتحدث في اللامتحدث فيه , ويفكر في اللامفكر فيه , ويسلك دروبا قلما سلكه غيره . ليكون نموذج التحدي , وينحاز لمستقبل مجتمعه , ضد ما يغتال ذلك المستقبل , من فكر سياسي واجتماعي وتربوي .
هل هم حقا مثقفون ؟؟:
المثقف الوهمي , الذي يجيد التزيف والتبرير الباطل . والمثقف التاجر, الذي يبيع ضميره وليستسهل فكره وثقافته , للسوق التجارية واسهمه لمن يدفع اكثر.
فكل هؤلاء , لايمكن تصنيفهم بصفة مثقف , بل هم يحملون لقبا بلا صفة , لانهم بلا موقف, اخلاقي, وسياسي , لتخليهم عن صفة المثقف الحقيقي , صاحب الفكر المبدع الخلاق المتجدد.
الثقافة والسياسة:
في المجتمعات التي تسودها ثقافة ضميرية واقعية , تعبر عن هموم الانسان وتطلعاته, وتلعب فيها النخب المثقفة والمتعلمة , دورا اساسيا في صنع المشاريع الوطنية الكبرى , لتساهم بقيادته الى جانب السياسي ورجل الدولة. اما المجتمعات المازومة , فهي مجتمعات تسودها ثقافة لاضميرية , منقطعة عن حاجات وهموم المجتمع , وغالبا مايكون مثقفوها منعزلون , خائفون وتابعون للسياسي وللسلطة.
المثقف بصفته صانع للافكار والمشاريع النهضوية، اما السياسي فانه منفذ لهذه الافكار والمشاريع . اي ان المثقف هو من يمتلك فن التفاعل , مع الواقع وفهمه وتعمقه في ابتكار المشاريع . والسياسي هو من يمتلك فن ادارة الواقع , مجتمعا ودولة.بمعنى اخر ان المثقف هو المفكر والمحلل والمنظر مهما امتلك من تنظيم . والسياسي هو المخطط والمنفذ مهما امتلك من الثقافة. وكل منهما يبدو ناقصا من دون الاخر.
ان نرجسية السياسي , وتبعية المثقف , هو نتاج الخراب , الذي لحق في نهضتنا الحديثة ومازال حتى وقتنا هذا. لاننا عجزنا عن خلق اي ثقافة عراقية وطنية متجذرة. واي مشروع سياسي عراقي ناجح.والسبب يعود الى ان اغلب اتجاهاتنا الثقافية , والسياسية , لم تتفاعل مع واقعها الوطني.
الاستنتاج:
من الصعب ان نؤسس لثقافات متجددة , تتناسل مع ثقافات التحضر, مالم نؤسس لمفاهيم جديدة , تبتعد عن ارتهان العقل , بعادات وتقاليد الاسلاف ، وغيبيات الاشياء. ولغرض اعادة تاسيس ثقافة فردية ومجتمعية . لابد من استنهاض النخب التي تبتكر افكارا خارج سياقات الثقافات السائدة حاليا في مجتمعاتنا. وهذا ممكن ان بدئنا باعلام واعي وساحات عمل مدني , يؤسس لمنهجية , ونظام لمعاني المسموع والمقلد من كلايش الليبرالية , والديمقراطية, وحقوق الانسان , بمنطلقات ابداعية متحررة من الماضي, وتلامس بعمق النقد الابتكاري المبدع, لتعطي منتجا عراقيا وطنيا جديدا ..
علينا ان نفهم ان , ضيم تكرار تقليد معاني الماضي , دون تجديد وبلا تامل ووعي ناضج ,لايقل ظلما عن اي تسلط اخر , ان لم يزيده دمارا لتاثيره على العقل الانساني ويجمد
ادراكه , ووعية , وابداعه , وتفوقة , في مختلف مناحي الحياة , منتجا عماء الوعي الجمعي الذي اعتاد ان يقاد ولا يقود.
الدكتور اسامة حيدر
20 نيسان 2009